لم يظهر الاهتمام بظاهرة العولمة على هذا الشكل المعمّم, سياسياً واقتصادياً واجتماعياً, وعلى مستويات المجتمعات كافة, بما فيها المتقدمة الصناعية والنامية والسائرة في طريق النمو, وحتى المتعثرة في إثبات وجودها على الساحة الدولية؛ لم يظهر هذا الاهتمام, إلا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ولم يتزامن بروز العولمة, كظاهرة عالمية, مع انهيار الاتحاد السوفياتي هكذا بالصدفة, بل برز كنتيجة لهذا الحدث, وحصيلة طبيعية له. وقد رسمت معالمه, وحملت لواءه الولايات المتحدة الأميركية. وبدأت انطلاقاً منه تتفرّد بالقرار الدولي باسم نشر الحرية وتعميم الديموقراطية, والقضاء على الجوع في العالم.
والولايات المتحدة ما كانت قادرة على لعب هذا الدور لو لم تمتلك في هذه الفترة الزمنية, مقدرات ضخمة, سياسياً, واقتصادياً وإعلامياً, كانت, بالإضافة إلى مساهمتها في انهيار الطرف المقابل والمعطّل لإمكانية التفرد في التوجه العولمي, العاملة على وضع أسس النظام العالمي الجديد, وبلورة مفهوم العولمة وصوغه عملياً, بتوجهها الإعلامي بشبكاته الضخمة, وتوجهها الاقتصادي بشركاته المتعددة الجنسية والعابرة للقارات.
إلاّ أنّ بروز العولمة على هذا الوجه السافر, لا يعني أنها ولدت من رحم الأزمة السوفياتية, و / أو النجاح الباهر لتوجه الليبرالية الحديثة, وهي الصفة المخففة للرأسمالية العالمية. ذلك أن العولمة ظاهرة شمولية في توجهها وأهدافها, انطلاقا من مركز تحدده لنفسها, أو يحدده من يعمل على نشر توجهها في العالم؛ وهو توجه يتغير بتغير الأهداف والغايات, وبتغير المرتكزات التي يستند عليها. وآحادية المركز لا تتحصّل هكذا بسهولة, إذ لا بدّ من الصراع من أجل امتلاك مركز الاطلالة على العالم, ومن ثم العمل على الاحاطة به. ووسع مسرح الأحداث العالمي يسمح باستقبال فاعلين كثراً, متقابلين أو مؤتلفين, ولا يعطل الأدوار المتناغمة والمتكاملة إلا الأدوار المتقابلة على تناغم وتكامل مغايرين. ولا يلغي ثنائية الأدوار المتقابلة, أو يخفف من تأثير أحدها, إلا الحروب التي تحاول أن تبقي على الغالب وتبعد المغلوب في عملية اقتسام مغانم العالم, أو النظر إليه واحتوائه في موقع واحد يضم الكثيرين, وبقيادة لا يشغلها إلا كيفية العمل على “الانفراد بالمجد”.
هذه التداعيات أتاحت لي الدخول في تحليل ظاهرة العولمة في بدايات تشكلها على مدى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية, من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: كيف تشكلت ظاهرة العولمة, وكيف ارتبطت تاريخياً بنزعة السيطرة؟ ما هي الظروف التي أدت إلى تشكّل مراكز الأقطاب في العالم؟ وكيف اختصرت الأحداث العالمية هذه الأقطاب لتنحصر في اثنين؟ وكيف أصبح الوضع بعد انهيار أحد القطبين؟ كيف تتجلى العولمة اليوم, وما الفرق بينها وبين النظام العالمي الجديد؟ وكيف يمكن التعامل مع العولمة والنظام العالمي؟
بدايات التشكل في العصر الحديث
عندما وطأت قدما “نابوليون بونابرت” أرض مصر, على مشارف القرن التاسع عشر, لم يجد طريقةً أفعل للدخول إلى قلوب المصريين إلا العاطفة الدينية, ولم يتوجه إليهم إلاّ باسم الإسلام. ولم يكن ذلك التوجه من موقع التدين, بقدر ما كان توجهاً سياسياً يوفر عليه حسب ما أمله وارتجاه الكثير من الدم والكثير من العقبات والعراقيل. ولم يفعل ذلك إلاّ بعد علمه بدواخل المصريين وبمدى التأثير في عاطفتهم الدينية وفي بنيتهم الذهنية التي يحل فيها الدين, واللغة الدينية وقضايا الإيمان, بالمرتبة الأولى (1).
ما قام به “بونابرت”, وإن كان لم ينطلِ على قلوبِ المصريين, وعلى عقولهم, فهو كان محاولة متقدمة في مخاطبتهم بما يستهوي قلوبهم قبل عقولهم. وهي تفترض معرفةً وافية في أحوال هؤلاء الناس, وفي ثقافتهم, وفي عاداتهم وتقاليدهم. وتلك معرفة محصّلة من سنين سبقت, تقدّم خلالها فكر النهضة الأوروبية, وقدّم الرحالة والمستكشفون والمبشّرون الكثير من المعلومات والتقارير والوثائق التي تظهر جميعاً الحالة الاجتماعية في بلاد “البرابرة” الموجودة دائماً خارج حدود أوروبا “المتحضرة” و”الرسولة” في هداية الأمم والشعوب إلى الحضارة, وإلى الحياة السوية الأوروبية في نزعتها وانتمائها (2). هي معرفةٌ أنتجت, بكل أشكـالها, الثورة الفرنسية في سنة 1789 م وتجلياتها اللاحقة.
عندما وقف “مترنيخ” زعيم الرجعية في أوروبا, يحدوه الخوف مما آلت إليه القارة بعد تجربة “نابوليون”, وبعد توجهه العاطفي نحو مصر بعقدٍ ونصف؛ عندما وقف متهللاً بنجاح خطتهِ في تثبيت الأوضاع في الداخل الأوروبي, لم يدر في خلده أن ما فعله في مؤتمر “فيينا” (3) سنة 1815م ليرضي الزعماء الأوروبيين بما يتوازى مع قواهم العسكرية, وبما يضمن منع الحروب بينهم للحفاظ على أوروبا هادئة ومستقرة, سيؤول, مع تفجّر الثورة الصناعية, إلى تقسيم دولي للعمل بين منتج ومنافس على الإنتاج, من جهة, وبين مقدِّم (أو مجبر على التقديم) للمواد الأولية, من جهة ثانية. ولم يدرك أن العالم سيتجه, بهذه السرعة, وجهة الانقسام إلى شمال متخم وصاحب قرار, وجنوب جائع, أو على الحافة, ومنفعل بما يريده القرار (4).
ما رسّخه “مترنيخ” وشيوخ السياسة الأوروبية, على امتداد القرن التاسع عشر, لم يدم أكثر من قرن واحد, تخللته مناوشات وحروب وصراعات لتكريس الزعامات الأوروبية أو مقاومتها انتهت جميعاً إلى حربٍ عالمية طاحنة مهدت لها ثنائية شديدة التناقض أملتها الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية وتنازعتها المصالح الاستعمارية والسياسية والاقتصادية التي لم تجد منفذاً لها إلاّ على جثث ملايين الضحايا, ودمار مساحات شاسعة من العمران, وخسارة ما لا يحصى من الرساميل ووحدات الإنتاج في شتّى الميادين والحقول. ولم يسلم من ويلاتها إلا من كان بعيداً عن ميادين القتال؛ وهؤلاء, إما كانوا غارقين في تطلعاتهم وهمومهم وفي نمط حياتهم المغلق والخاص بهم, كما في الهند والصين وجنوب شرق آسيا؛ وإمّا كانوا يتحيّنون الفرص للظهور على المسرح الدولي باقتناص ما يمكن اقتناصه من التدخل في عمليات إنهاء الحرب, أو إجراء مهمات التفاوض بين المتحاربين, كما فعلت الولايات المتحدة تحديداً, خلال التمهيد لمؤتمر الصلح في باريس, وفي المؤتمر بالذات سنة 1919 (5).
العولمة المنقسمة وتنافس القطبين
الحياد الذي فرضته الأحداث على الولايات المتحدة, والمسافة التي نشأت بينها وبين أوروبا, لم يدوما طويلاً. فقد تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929 التي كان من مسبباتها ما آلت إليه نتائج الحرب, ومهّدت في الوقت نفسه, مع عوامل أخرى, إلى نشوب الحرب العالمية الثانية, التي أنتجت بنهايتها, من جملة ما أنتجت, فاعلين كباراً على مستوى السياسة الدولية وقيادة العالم. كما ساهمت بالقضاء على القوة الأوروبية, وحصر القوة والنفوذ بالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي الذي ذاع صيته لمساهمته الكبرى في القضاء على ألمانيا. وهذه هي القوة الثنائية التي سيطرت على العالم ما يزيد عن الأربعة عقود باسم توازن الرعب النووي الذي أنتج تقسيماً جديداً للعالم إلى ثلاثة عوالم, كان نصيبنا منه, نحن العرب, ومع غيرنا, في العالم الثالث المتشظّي في ولاءاته بين العالمين, أو المفتش, في قسم منه, عن انتماء جديد يمحضه ولاءه, ويحميه من مغبّة الانحياز (6).
في زحمة هذا الصراع, كان الكثير من بلدان العالم الثالث مع هذا القطب, أو ذاك: مع الولايات المتحدة وما تمثله من قيم الغرب ومبادئه, أو مع الاتحاد السوفياتي وما يمثله من قيم النضال لتحرير الشعوب من الاستعمار والاستغلال. يحدو الجميع في ذلك الرغبة في زيادة وتيرة التنمية, والعمل على ترسيخ أسس الدول “القومية” أو “الاشتراكية” على صورة دول القطبين ومثالهما من الناحية السياسية (7). فنشأت علاقات وطيدة باسم التعاون وباسم التنمية وباسم التدريب على الديموقراطية. ونشأت دول وقامت حكومات, وظهرت جمهوريات, وبرزت أفكار وفلسفات تروّج لهذه الإيديولوجيا أو تلك, وتعمل على دعم هذا النظام, أو على قلب ذاك. ودارت حروب وأبيدت الملايين باسم الحرية وباسم الدفاع عن الديموقراطية, وبمباركة القطبين بالذات, وبموافقة من يدور في فلكهما (8).
الميزة الخاصة لهذا العصر, عصر الرعب النووي, أنه خلق قدراً من حرية الحركة والقرار, وإن كانا ملجومين بمصالح هذا القطب أو ذاك المحددة بالعمل على نشر اقتصاد عالمي خاص بكلٍ منهما: الاقتصاد الاشتراكي بقيادة موسكو, والاقتصاد الحر بقيادة واشنطن (9). وكان احتمال الانحياز إلى الخيار الآخر يملي على القطب انتهاج سياسة اللين, وتوسّل الدعم, والتوجه جهة الدفاع عن مصالح الحلفاء, من أجل الحفاظ على الولاء, ومخافة التفلّت من قبضة مدير اللعبة ومدبّرها. فيفوح من تفاعل هذه العلاقات قليل من رائحة الحرية والديموقراطية, على القدر الذي يكفل استمرار التعاون بالتبعية, دون أن يصل الأمر إلى جوهر الحرية والديموقراطية في طريقة ممارستهما, وفي معناهما, في الغرب على الخصوص (10).
بانتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي وزوال تأثيره السياسي والعسكري, زالت القطبية الثنائية وانتهت مرحلة الرعب النووي لتبدأ مرحلة سيطرة القطب الواحد. وغاب عصر الخيارات المتعددة ليشرق عصر الخيارات المعدومة